الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لما في أشد المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالًا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكرامًا من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زِيدَ على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام، وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر.والاعتراض بأن أشد محمول على القلوب دون القسوة ليس بشيء لأنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها تمييزًا محولًا عن الفاعل أو منقولًا عن المبتدأ كما في البحر، ويمكن أن يقال: إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيهًا على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 6 4].{وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ} تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو اعتراض بين قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وبين الحال عنها وهو {وَمَا الله بغافل} لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله: وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل يأباه الذوق إذ لا معنى للتقييد، وكونه بيانًا وتقريرًا من جهة المعنى لما تقدم مع كونه بحسب اللفظ معطوفًا على جملة هي كالحجارة أو أشد كما قاله العلامة مما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانًا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانًا، والمعنى إن الحجارة تتأثر وتنفعل، وقلوب هؤلاء لا تتأثروا لا تنفعل عن أمر الله تعالى أصلًا، وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أولًا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرًا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار، ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرًا ضعيفًا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء، ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه: قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثر بحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلًا ومما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء، وترك فائدة الهبوط، وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقي كالرحمن الرحيم إذ لو أريد الترقي لقيل وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهار وفائدته استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر، وهو أبلغ من الترقي، ويكون {وَإِنَّ مِنْهَا} الأخير تتميمًا للتتميم، ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لاستيعاب جميع الانفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه، والتفجر التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل، والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار، والكلام إما على حذف المضاف، أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي، قال بعض المحققين: وحملها على المعنى الحقيقي وَهمٌ إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال: يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير نهرًا غير معتاد فضلًا عن كونها أنهارًا، والتشقق التصدع بطول أو بعرض، والخشية الخوف، واختلف في المراد منها فذهب قوم وهو المروي عن مجاهد وغيره أنها هنا حقيقة، وهي مضافة إلى الاسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي من خشية الحجارة الله ويجوز أن يخلق الله تعالى العقل والحياة في الحجر، واعتدال المزاج والبنية ليسا شرطًا في ذلك خلافًا للمعتزلة، وظواهر الآيات ناطقة بذلك، وفي الصحيح: «إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليّ قبل أن أبعث» وأنه صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وورد في الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه، وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريف صلى الله عليه وسلم مشهور، وقيل: هي حقيقة، والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد، والمعنى: أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد الله تعالى إياه؛ وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤل المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد الله تعالى.وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في {مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} عائد على القلوب، والمعنى أن من القلوب قلوبًا تطمئن وتسكن وترجع إلى الله تعالى، وهي قلوب المخلصين، فكنى عن ذلك بالهبوط، وقيل: إنها حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البرد، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم: إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى إطلاقًا لاسم الملزوم على اللازم، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات، ومنها هاتيك الأفعال ونحو «هذا جبل يحبنا ونحبه» على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر.وأما على القول بعدم الاشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل والحياة لا يصح أن يكون بيانًا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوة وهو المناسب للمقام والاعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الانقياد لأمر التكليف بطريق القصد والاختيار ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر والإلجاء كما في الحجارة وعلى هذا لا يتم ما ذكر، فالأولى الحمل على الحقيقة أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لقبولها التأثر الذي يليق بها وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها وخلقت له، والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجؤه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم أشد قسوة لا يخلو عن نظر لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق فلا ينفع، وإن أريد به حقيقة الإلجاء فممنوع، وإلا لما تخلف عنها التأثر ولما استحق من آمن بعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانًا اضطراريًا ولم يقل به أحد ثم الظاهر على هذا تعلق خشية الله بالأفعال الثلاثة السابقة وقرئ {وَأَنْ} على أنها المخففة من الثقيلة ويلزمها اللام الفارقة بينها وبين النافية، والفراء يقول: إنها النافية واللام بمعنى إلا وزعم الكسائي أن {إن} إن وليها اسم كانت المخففة، وإن فعل كانت النافية، وقطرب إنها إن وليها فعل كانت بمعنى قد وقرأ مالك بن دينار {ينفجر} مضارع انفجر والأعمش {يتشقق} و{لَمَا يَهْبِطُ} بالضم.{وَمَا الله عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد على ما ذكر كأنه قيل: إن الله تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم حافظ لأعمالهم محص لها، فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن كثير {يَعْمَلُونَ} بالياء التحتانية ضمًا إلى ما بعده من قوله سبحانه: {أَن يُؤْمِنُواْ} و{يَسْمَعُونَ} [البقرة: 57] وفريق منهم، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية لمناسبة {وَإِذْ قَتَلْتُمْ فادرأتم} [البقرة: 72] وتكتمون الخ وقيل: ضمًا إلى قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة: 5 7] بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين وعدلهم، ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلًا لبيان قبائح اليهود. اهـ.
وكما قال سويد بن أبي كاهل، يصف عدوًّا له: يريد أنه ذليل.وكما قال جرير بن عطية: وقال آخرون: معنى قوله: {يهبط من خشية الله} أي: يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه. كما قيل: ناقة تاجرة إذا كانت، من نجابتها وفراهتها، تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية: فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهانيّ الذي يهجوه. من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به. ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية. وتقدم رد ابن حزم له مبرهنًا عليه.ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله. وعبارته: قال مجاهد وابن جريج: كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به، وقال الزجاج: الهابط منها قد جعل له معرفة، قال ويدل على ذلك قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وقال: {لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18]، إلى قوله: {النُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ} [الحج: 18] وقد روي مثل هذا عن السلف، ولابد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول، وحقيقته. فإن قومًا استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو، فانطووا على شبهة، وقومًا استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه، فيقال وبالله التوفيق: إن قومًا من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب:الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام. وذلك لعلاّم الغيوب الذي أحاط بكل شيء علمًا.والثاني معرفة متزايدة، وهي للإنسان، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية، وجعل له بذلك سبيلًا إلى تعريف كثير مما لم يعرفه، وليس ذلك إلا للإنسان.والثالث معرفة دون ذلك، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها. واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها، ودفع مضار عن أنفسها.والرابع: معرفة الناميات من الأشجار والنبات، وهي دون ما للحيوانات، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها.والخامس: معرفة العناصر، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل، والنار في طلب العلّو، وذلك بتسخير الله تعالى، بلا اختيار منه. قالوا: والدلالة على ذلك أن كل واحدٍ من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرًا، أبى إلا العود إليه طوعًا. قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه، ويأبى الماء الذي يطفيه، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره. هذا ما حكوه.فعلى هذا إذا قيل: لهذه الأشياء معرفة، فليس ببعيد، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الْإِنْسَاْن في أنها تميز وتختار وتريد، فهذا مما تعافه العقول. انتهى قول الراغب.وهو تأويل حسن، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف. وهو مسلم في كثير من الإطلاقات.وقوله تعالى: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى. فإن الله عز وجل إذا كان عالمًا بما يعملونه، مطلعًا عليه غير غافل عنه، كان لمجازاتهم بالمرصاد. اهـ.
|